Wednesday, August 01, 2007

محمد حاكم الذي خطفته المَنيةَ من الأماني




من أجمل كلمات الرثاء التي مرت أمامي، محمد حاكم.. كنت إنسان رائع بمعنى الكلمة





كتب: د.عمار على حسن




منذ رحيله قبل أيام قلائل، وابتسامته الرائقة لا تفارق مخيلتي. كان يضحك ما وسعه، هارباً من أحزانه المزمنة، وأوجاعه المفرطة، التي امتدت من غرف الفقراء الضيقة المقبضة إلي شرايينه. عرفته مؤخراً فمر كطيف جميل في حياتي المترعة بالهموم.



تزاملنا في رحلة خارج مصر لأيام، وتقابلنا علي بعض مقاهي القاهرة لساعات، لكنه حفر علامة في قلبي وعقلي، فعزمت علي صداقته حتي آخر العمر، وآمنت بأن بساطته الآسرة تنطوي علي عمق إنساني سحيق، وطبع أصيل، وقدرة فائقة علي فرز البشر، وتصنيف الأفكار والرؤي.



لكن صاحبي الجميل رحل دون أن يودعني أو أودعه، بل لم أكن بجانبه وهو يكابد الألم وينتظر الرحيل، لأنني انشغلت عن مقابلته أو زيارته أو مهاتفته لبضعة أسابيع، وكان جهلي بالغيب يصور لي أن هذا الانقطاع ليس سوي لحظة عابرة في زمان صداقتنا الغضة، ستنزوي في أركان النسيان، ليعود تواصلنا من جديد.



رحل الباحث الاجتماعي القدير محمد حاكم بعد معاناة قصيرة مع مرض عضال، ومعاناة طويلة مع أحلامه، التي كانت دوماً عصية علي الترويض. أغمض عينيه وفي رأسه عشرات الأفكار التي كان ينوي أن يفتح لها نافذة علي دنيا الواقع، فتنتقل من التخيل إلي التحقق، لكن القدر لم يمهله، وخطفته المنية من الأماني، ليترك لنا قليلا من كثير، كان بوسعه أن يبذره أمام عيوننا وأفهامنا، لو كان قد درب نفسه علي الدأب، وعود جسده علي أن يلتصق طويلاً بالمنضدة، وآمن بالحكمة الأثيرة التي أطلقها نجيب محفوظ وطبقها، والتي تقول إن «جل العبقرية يقوم علي بذل الجهد».



كانت مناقشاتنا، علي قِصر أيامها، تدور حول هذه المعاني، فكنت ألومه علي ظلمه لطاقته العقلية، وأطلب منه أن ينخرط أكثر في عوالم الكتابة، وكان يعدني بأن يعكف علي ما يشغل رأسه، ويمنحه الفرصة كي يولد علي صفحات الورق، وبين حنايا السطور.


وأهداني ذات مرة عدداً من دورية كان يصدرها «السيديج» الفرنسي، يحوي دراسة له، وقال لي وعيونه تلمع في ضوء الحجرة الشفيف، الذي تهديه إليها شمس الأصيل الذابلة: «هو العدد الأخير لدي، فحافظ عليه». وهرعت إلي البيت لأري حاكم علي الورق، فتٌجلي عيني باحثاً قديراً، وكاتباً كبيراً، وأنا ألتهم السطور، العامرة بالمعاني. وما إن انتهيت من قراءة البحث حتي هاتفته لألومه علي حرماننا من أمثال هذه الأبحاث، وتراخيه في مواجهة سلطة الزمن وسطوته.


وحكي لي عن رسالته للماجستير، التي تدور حول الريف والمدينة بمصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، واحتفائه واحتفاله بزمن محمد علي، صانع مصر الحديثة، وقال لي وهو يهز رأسه بإيماءات من يقين: «ستري هذه الرسالة قريبا في كتاب».



وتحقق له ما أراد، حين صدر كتابه «أيام محمد علي» عن المجلس الأعلي للثقافة، لكنه لم ينعم بإمعان النظر طويلا في غلاف كتابه وسطوره، كما يفعل كل الكتّاب كلما تدفع إليهم المطابع بأبنائها الجدد، ولم أظفر أنا باصطياد لحظة كهذه في عيون حاكم وملامحه، فقد كان يحزم أمتعته البسيطة لرحلته الأخيرة، بينما أنا غافل عنه، تائه في شوارع مفتوحة علي الغربة والضياع، متوهماً أن الوقت ملك يميني، وطوع بناني، وسيتيح لي حين أريد أن أري «حاكم»، ونتناقش سوياً حول كتابه الأول والأخير، كما تناقشنا حول مقاله الأسبوعي في صحيفة «الدستور».



لكن حاكم عوض قلة الكتابة بكثرة الحركة، مؤمناً بأن هذه لا تقل عن تلك، فانتمي في ميعة الصبا إلي الحركة الطلابية المصرية، وناضل بين صفوفها من أجل حياة أفضل.



وأثناء حياته العملية تنقل بين جريدة «الأهالي» والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وكان كثيرون يعدّونه التلميذ النجيب للعالم الكبير الأستاذ السيد يس، ثم انخرط في التعاون مع «السيديج» في برنامج بحثي، حضرت بعضاً من محاضراته وجلساته، عن القضايا الحيوية التي تعيشها مصر في الوقت الراهن، مثل «الإصلاح الدستوري» و«الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي» علاوة علي «مناهج البحث في العلوم الاجتماعية».


وبالإضافة إلي هذا كان حاكم يعد برنامجاً تليفزيونياً ناجحاً، ويحلم بأن يفعل الكثير ليحصد وطنه الحياة التي تليق به، ويظفر هو برضاء أكثر عن نفسه، يزيد من اتساقه الداخلي، وسلامة طويته، وتطابق كلامه مع أفعاله.



ما سيبقيه الزمن من حاكم، إلي جانب كتابه المهم وبحثه الفريد، هو إخلاصه لوطنه، وحبه للناس، وإيثاره الجميع علي نفسه، وكرمه اللافت، وابتسامته المشرقة، التي لا تفارق شفتيه، وآثار أقدامه التي كانت تدب في وسط المدينة بثقة متناهية، وإقبال شديد علي الحياة الدنيا، لكنه ظفر بحياة أفضل في رحاب ذي الجلال، هناك.. حيث الخلود، والرحمة والعدل والسلام والسكينة، التي كان حاكم يحلم بأن يجدها بين الآدميين المتعبين، لكنه مضي كدفقة من نسيم عليل، وترك كل شيء وراء ظهره، كما سنفعل جميعاً، حين تحين لحظة الخلاص والحرية الأبدية.


------------------

نقلا عن المصري اليوم

31 يوليو 2007